الأب الرئيس البروفسور جورج حبيقة شدّد على موضوع “الجامعةُ والتربيةُ على التعدّدية“
بمناسبة عيد الجامعة السنوي، عيد العنصرة، الذي احتفلت به جامعة الروح القدس – الكسليك وضمّ لفيفاً من الأصدقاء وحشداً كبيراً من السياسيين والسلك الدبلوماسي ورؤساء وممثلي الجامعات ومن الجسم التربوي والإداري، وعلى رأس هذه المناسبة قدس الأب العام نعمة الله الهاشم الذي ترأس قداسًا بالمناسبة ومجلس المدبرين، ألقى الأب البروفسور جورج حبيقة، رئيس الجامعة، كلمة شدّد فيها على موضوع “الجامعةُ والتربيةُ على التعدّدية“.
توجّه الأب الرئيس، بادىء ذي بدء، بكلمة شكر عميق إلى الرئيس الأعلى للجامعة، قدس الأب العام نعمة الله الهاشم، لما يحيط به هذه المؤسّسة الجامعية الرائدة من عناية رشيدة واهتمام حكيم وهادف.
ثم خصّ بالذكر جميع رؤساء الجامعة السابقين المتعاقبين على خدمتها، خاصا بالذكر الأب البروفسور كرم رزق والأب البروفسور هادي محفوظ “مستحضراً ما وظّفوه من طاقات جبّارة وإمكانيّات رياديّة في سبيل تحقيق النموّ المستمرّ لمؤسّسة وطنيّة عريقة”.
كما توجَّه بالتهاني الحارّة إلى الجسم التربوي والإداري العامل في الجامعة قائلاً لهم: “لن أكونَ مبالغاً في قولي لكم إنّ اليومَ إنما هو عيدُكم وعيدُ طلابكم الأعزاء، عيد الثنائي التربويين والمتلقين تحت رعاية الروح”.
وشمل في ترحيبه أصدقاء الجامعة المشاركين والحاضرين في مثل هذه المناسبة إلى جانب عائلة الروح القدس – الكسليك.
ثم تناول الأب الرئيس مهمّة الجامعة في التربية على التعدّدية، وانطلق من مبدأ قائم على أسس فلسفيّة معتمداً مقولة كانط الشهيرة، “إنّ الأنسان لا يصبح إنساناً إلاّ بالتربية”.
واقترح، في مداخلته، باقة من الأفكار المتداخلة والمتفاعلة فيما بينها والمتنوّعة، التي قد تشكّل، بين العديد من مثيلاتها، خارطة طريق، تتجسَّد أبعادها في مبادئ تربوية تسهم في إعداد أجيالنا الناشئة على طريقة عيش تعترف بالغيريّة وبالتعدّدية، وتعتمدها، لاحقاً، نهجا مجتمعيا قوامه مبدأ الحقّ في الاختلاف.
وبيَّن الإسهامات الفاعلة التي أتت بها المسيحية والفلسفة وعلم الأنتروبولوجيا وعلم الوراثة، وسواها من العلوم والتي تصبّ كلُّها في خلاصة لا لبس فيها: إن الحياة لا تنمو ولا تستمر إلا في حضن التنوع.
ربط الأب الرئيس تمسكَّه العنيد بالتربية على التعدّدية بوقائع من التاريخ تثبت بشكل جلي أن المستقبل إنما هو معقود للمجتمعات التي تحسن إدارة التنوع وتُخصبه في هيكليات تكاملية منسجمة في تآلف الاختلاف. فانطلق من أثينا المقهورة مقارناً بينها وبين إسبرطة المنتصرة عسكرياً، وأظهر في تحاليل متماسكة، عبثيّة الانصهار في جماعة واحدة تذوّب الآخر المختلف في عنصرية حادة من جهة، وديناميّة التعدّدية العابرة للحدود والساعية إلى التلاقي والتواصل عن طريق المعرفة، من جهة ثانية، ومما جاء في كلمته: “ننصح طلابنا أن ينهلوا من تاريخ اليونان القديمة، يوم شكّل الهللينيون صيغتي عيش متناقضتين كلياً لإدراة مدينتهم: من جهة إسبرطة، التي كانت تشقّ النفس بحثاً عن تماسك شعبها وانصهاره في جماعة واحدة، عبر الحفاظ المفرط على نقاوة العرق والدم وطرد كلّ غريب عن أرضها، […] وأثينا التي أظهَرَت وجها معاكساً؛ فكانت تعيش في مناخ من الديمقراطية، مشرّعة أبوابها لعشاق المعرفة والبحث عن الحقيقة، […]. من يتذكّر اليوم إسبرطة وانتصاراتها الميدانيّة، من يتذكر عنصُريتها العمياء، وفخرها المجوّف في سبيل سيادة نقاوة العرق والدم ووحدة الدين؟ في حين أن أثينا دامت على الزمن قطب الثقافة والفلسفة واللاهوت والعلوم والآداب والمسرح والسياسة، الذي عصي على الموت”.
وخاطب الرئيس الحاضرين أيضاً بلغة المؤمن مثمّناً زمن العنصرة وما تنطوي عليه من ثراء المعاني الدينية والإنسانية، كونها محطة مسيحية كبرى، دعماً لتأهيل الجيل الناشىء على الحوار والإنفتاح ورذل اختزال الآخر المختلف، لأن العنصرة، التي تعني في العبرية الاجتماع والتلاقي، تختزن في جوهرها المعنى الجامع للإنسانية، والمعنى العلاجي للتاريخ البشري المأساوي، فبفضلها تهجر الغيرية الثقافية سجلّ التلاغي الثقافي، وتعبر إلى عهد جديد من حوار حضاري صادق، وذلك عن طريق مقاربة منفتحة على الواقع التعددي المعاش: “هكذا نرى أن جميع شعوب البحر الأبيض المتوسط، المتحلقين حول الرسل في علية صهيون، حاملين معهم ذاكرتهم التاريخية وثقافاتهم المتنوعة في لغات متعددة، كانوا يفهمون على القديس بطرس المتكلم بالآرامية، بفضل حلول الروح القدس، روح الله الحاضن للوجود بأكمله، في لغتهم ومنظومتهم الفكرية. إن العلاج لبرج بابل في تبعثره اللغوي وتصدعه المجتمعي لا يقوم على نزع الفروقات وإلغائها أو على الأحادية والانصهار، بل على فهم حضارة الآخر وتذهنها وقبولها. في المعادلة الجديدة هذه، تتساوى اللغات والثقافات، وبالتالي، تمتنع أيّة واحدة منها عن الإدعاء لذاتها قدسيّة ما أو أن تتفرّد باحتضان الحقيقة”.
كما ألقى الأب الرئيس الضوء على “أورشليم الجديدة”، التي بشّرت بها المسيحيّة بأبعادها الجوهريّة الثلاثة، والتي لا تزال وعداً للشعوب المشرقيّة من أجل عيش منفتح على التعدّدية بـــــ: “تحرّرها من قدسية الحدود الجغرافية، وانعتاقها من الأحادية الثقافية القائمة على العزل الديني والعنصري؛ وتحوّلها إلى مدينة المصالحة، مدينة الله، التي تجمع الهويات الدينية والثقافية، في مساحات القبول المتبادل والتكامل، بفضل فيض روح الله الموحِّد في التنوع”.
ويستشهد الأب الرئيس لدعم التربية على التعدّدية بالآية 118 من سورة هود في القرآن الكريم “”لو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة”، و”بميثاق المدينة” الموقّع من النبي محمد مع اليهود والنصارى والصابئة، في 16/7/622/ أولى /هـ؛ و”قد اشترطت بنوده توزيع المهمّات الإدارية المتعلّقة بشؤون المدينة توزيعاً عادلاً، بين أهلها، على اختلاف مشاربهم، معتبرة الآخر، المختلف ثقافياً ودينياً، شريكاً كامل الحقوق والواجبات. وبعد “سقوط صحيفة” المدينة وفرض الشريعة الإسلامية، يقول الأب حبيقة، كان لزاما على الشرق المقهور والهائم في ظلاميات الأنظمة السياسية، أن ينتظر أربعة عشر قرنا لكي يرى فلسفة “ميثاق المدينة” وروحيته تنبعثان مجددا في حلة جديدة وقشيبة في الميثاق اللبناني والصيغة اللبنانية”.
كما لم تخلُ كلمة الأب الرئيس من رأي في العولمة الكاسحة الناسفة للخصوصيات والمقوّضة للحدود، والباعثة على اصطدامنا بإشكاليّة وجودية لا يمكن التغاضي عنها أو إهمالها: “هل إنّ الوجود الإنساني هو الإشكالية أم إن الوجود المشترك والعيش معاً هما الإشكالية؟”، لأنها تهدّد بعاصفة الإحتدام بين الهويات القاتلة.
ويسائل الأب الرئيس المجتمع كيف سيتمكن المرء منه من العيش بدون الآخر، بدون اللا أنا؟ “هل بدون الآخر، بدون هذا اللا أنا، كنت لأعي هويتي الخاصة؟ وهذا اللا أنا أليس هو الغريب القابع في صلب غيريتي في كلّ لا يتجزأ من جسم الإنسانيّة؟ وعندما أجرؤ على اختزال هذا الآخر المختلف، الذي ينتصب أمامي ويخضني في قناعاتي ومسلّماتي، سأكتشف، بالتالي، أنني في التصدّي الإلغائي أو الإقصائي له، كنت أعمل، عن قصد أو عن غير قصد، على تحطيم ذاتيٍ”.
ويتناول الأب الرئيس “مبدأ الفرادة”، ومفهوم التجذّر كمعادلة أنطولوجية مقدّرة، ويقابله بالمفهوم العلمي الجيني الوراثي، المؤكّد على أن الإنسان لا يحمل من مخزون تراثه الجيني إلاّ النصف الآتي من الأهل، أما النصف الثاني فمن الطبيعة، مما يعني أن النصفين معا يصيغان كائنا بشريا فريدا من نوعه، لم تعرف البشرية ولن تعرف مثيلا له.
لقد استعان الأب الرئيس في كلمته بتحاليل وأبحاث تؤكّد فيما تؤكده أنه على المجتمعات أن تصحو وتعي مواقعها الزمنية والجغرافية، وأن تدرك أنه ليس لها أدنى إرادة في اختيارها، وكي تحظى المجتمعات بقدَر آخر وأفضل، يدعو الأب الرئيس الجامعة إلى الإلتزام بنهج تربوي يواكب الحركة العصريّة في تأهيل الإنسان القادر على التحرّر من العنف العنصري، ومن التزمت الديني، ومن الإنغلاق على الذات، ومن التضخيم الأحمق للذات، ومن اختزال الآخر والتعامي عن الخصوصيات أو التغاضي عن الحقّ في الإختلاف، ومن التلاغي القاييني أو التلاغي الثقافي.
كما اعتنت كلمة الرئيس بدفع الجامعة إلى ان تكون الخلية الأولى في المجتمع لترسي أصول العيش معاً “فتربيهم على التثمين الإيجابي للتعدّدية الثقافية وللتثاقف المتبادل، وبذلك تكون قد انطلقت بطلابها نحو أفق المدينة الآتية، “أورشليم الجديدة”.
وفي ختام كلمته جدّد الأب الرئيس مخاطبة الطلاب بالرسالة التالية: “إن الجامعة الموكل إليها تربيتكم توظّف قناعتها في الكلمة الإنسانيّة كمرجعيّة أولى وأخيرة لتلاقي البشر بعضهم ببعض وللتفتيش معا، على متن الكلمة حكرا، عن معالجات عاقلة لقضيانا كافة. بواسطة الكلمة، تعبر البشرية التاعسة والمسكونة بهاجس السعادة، نحو حاضرة إنسانيّة تحضن الحوار قاعدة في إدارة التنوع، والمصالحة سلوكاً دائما لترميم المنظومة العلائقية. آنذاك يصبح بمقدور البشر، على اختلاف انتماءاتهم وثقافاتهم، أن يعيشوا في كنف حضارة المحبة والسلام”.