بعد المؤشرات الإيجابية التي أحدثها تأليف الحكومة الجديدة، حملت الأيام الماضية حدثاً مؤسفاً تمثل بإقدام مواطنٍ على إحراق نفسه، بسبب عدم قدرته على تعليم أبنائه كما يرغب. إن هذا الحدث شكل صدمةً لكل اللبنانيين، وهو يختزن في مضامينه معانٍ عميقة يجب التنبه إلى خطورتها والتحرك لمعالجة تهديداتها.
لقد آلمنا هذا الفعل بشدة، واستفز ضمائرنا أن نرى انهيار أفق الأمل أمام أبٍ أراد من الحياة أن تكون أفضل لأبنائه، فسعى إلى تعليمهم بأحسن ما يمكن، ولم يحتمل أن يفشل في هدفه السامي هذا.
إن هذه الواقعة تنذر بتوترات اجتماعية مقبلة، كنتيجة لقصور الإنفاق الاجتماعي وارتفاع مفاعيل نسب الضرائب غير المباشرة.
لذلك لا نكتفي بالتعبير عن الحزن والمرارة، بل إننا نرى مؤشرات تدفعنا إلى التفكير مجدداً وبصورة أكثر إلحاحاً بتعزيز الوجه الاجتماعي للسياسات العامة.
إننا ننظر إلى القطاع التربوي كأساسٍ في بناء لبنان المستقبل، وأن تحقيق العدالة في مجال التعليم يؤسس لتعميم العدالة الاجتماعية والاقتصادية في المستقبل، وتعميم معدلات أكثر ارتفاعاً من الرفاه للجميع.
إن ما يميز القطاع التربوي في منطلقاته وأهدافه هو أنه من القطاعات التي تغلّب في أساس وجودها البعد الأخلاقي والقيمي على ضرورات الربح المادي، ونحن ننظر إلى مؤسساتنا التعليمية في القطاعين العام والخاص على أنها معامل بناء وليس شركات أرباح، وبالتالي التفكير بكلفة التعليم الحقيقية أصبح ضرورة اليوم، حتى نتمكن من إيجاد الصيغة الرابحة التي توفق بين تأمين التعليم النوعي المتقدم للجميع من جهة. ومن جهة ثانية، تمكين المؤسسات التعليمية من الاستمرار وتطوير مواردها المادية والبشرية بصورة عادلة.
ونحن بعيداً من تحميل المسؤوليات الذي يدرج في أوقات المآسي، ويُنسى عندما تبرد مفاعيل الحدث المحرّك، نجد أن دورنا يتركز على إطلاق دينامية جديدة وجدّية للتفكير بالسياسات التربوية كركيزة من ركائز الأمن الاجتماعي الاستراتيجي بعيد المدى، والذي يطال لبنان الحاضر والمستقبل في صميم صحته وفرصه في التقدم.
ونحن في هذا السياق نرى في المدرسة الرسمية تحديداً ضمانة وطنية على المدى البعيد، وهي بحاجةٍ إلى تعزيزها كأولوية قصوى ضرورية، من خلال إعادة توزيع الانفاق الحكومي التربوي بما يتلاءم مع تطوير مبانيها ومختبراتها وكادراتها البشرية.
وفي هذا المجال، ندعو كل المؤسسات التعليمية إلى الامتناع عن حجب الإفادة المدرسية عن التلامذة بحجة التخلف عن دفع الأقساط. والتعهد بالحؤول دون حصول حالات يتعرض فيها التلامذة لوقف الدراسة بسبب المال. ونرى أنه من الضروري إحصاء نسب التخلف عن سداد الأقساط المدرسية تمهيدا لاستنباط الحلول على ضوء الواقع الحقيقي. كما ندعو جميع المؤسسات التربوية إلى المحافظة على رسالتها القيمية الأساسية كأولوية أولى في اهتماماتها.
وكنا قد أطلقنا في المجلس خلال العام المنصرم سلسلة لقاءاتٍ تربوية جمعت ممثلي المدارس ونقابات المعلمين، واستقبلنا وزير التربية ورئيس لجنة التربية النيابية، حيث أطلقنا نقاشاً تربوياً جدياً، سعينا من خلاله إلى تصويب وجمع الجهود وتزخيمها، لأننا نعتبر أن أهداف الجميع في هذا القطاع واحدة، وهي موجهة نحو بناء المستقبل.
ومن منطلق السياسة التربوية فإننا نتطلع إلى سياسات اجتماعية دافئة وعادلة، وإلى إعادة التفكير في مستقبلنا على أساس التوازن بين السياسات الاقتصادية الرافعة للنمو، والضرورات الاجتماعية الحاضنة لنمو الطاقات البشرية واللاحمة لمكونات المجتمع كافة.
ونحن نعتقد بأن تكرار المآسي الاجتماعية يعود لضعف نظام الحماية الاجتماعية الضروري، وليس مرتبطاً بأخلاقيات مؤسسة أو فرد، وإن كان اهتزاز هذه الأخلاقيات يؤدي الى اهتزاز التماسك الاجتماعي بالضرورة. إن الحقوق الرعائية ملازمة بطبيعتها لمفوم المواطنة وبالتالي لا يجوز إهمالها إطلاقاً.
وندعو من المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى التنبه لما وصلت إليه الأوضاع الاجتماعية لشرائح واسعة من الأسر جراء ازدياد البطالة وما ينجم عنها من فقر وتفكك مجتمعي. وإلى تنقية الموازنات العامة في السنوات المقبلة من الإنفاق الهدري تماماً، وتحويل الوفر إلى إنفاقٍ اجتماعي حق. وتضمينها الخطوط العريضة للسياسات الاقتصادية المؤنسنة التي توسع الابعاد الاجتماعية لعملية النمو.
إن الإنفاق الاجتماعي في عمق مفاعيله يؤدي إلى تحصين التماسك الوطني، ويسهم بصورةٍ أكيدة في التطور العام وفي نمو الاقتصاد، لذلك يمكن اعتبار الانفاق على السياسات الاجتماعية استثماراً بعيد المدى وأكيد الأثر في الإنسان ومن أجله.
ونحن نرى أن أنسنة الاقتصاد والسياسات العامة أكثر من ضرورة، خصوصاً في هذا الوقت بالذات حيث نشهد انطلاقةً جديدة للعمل الحكومي، وبلدنا يقف أمام محطات هامة على المستويات كافة.
إننا نعتقد بأن تعزيز السياسات الاجتماعية الحاضنة للجميع لا يكون فقط من خلال العطاءات وسياسات الدعم التي قد تشكل مفسدةً على المدى البعيد، بل يكون من خلال استخدام العطاء كمحفّز لديناميات اكتفاء ذاتي في القطاعات المختلفة، تكون قابلةً للاستمرار والتطور بذاتها. والمحك في نجاح هذا التوجه مرهونٌ بإيجاد الصيغ الرابحة للجميع، المواطنون ومؤسسات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص. والسياسات العامة الناجحة هي التي تجد هذه الصيغ التي تعمم الفائدة على الجميع.
إن الدينامية الجديدة التي نطلقها في المجلس الاقتصادي والاجتماعي تقوم على فتح النقاش وتوسيعه حول الواقع الاجتماعي في لبنان، وهو عمل انطلقنا به منذ فترة ونتابعه في عملنا اليومي حيث نفكر معاً لإيجاد حلول لمختلف المشكلات الاجتماعية التي نعاني منها، وذلك من خلال الدراسات واللقاءات المطلوبة مع الفاعلين في القطاعات المختلفة. وفي هذا المجال تعمل لجان المجلس على وضع دراسة متخصصة في السكن، تهدف بصورةٍ أساسية الى حل مشكلة تأمين السكن اللائق للبنانيين. بالإضافة إلى دراسة أخرى حول البطالة وتوفير العمل المناسب، وهنا تقوم لجنة التكنولوجيا بوضع دراسة تفتح المجال أمام فرص جديدة في هذا المجال، بينما تعمل لجنة التربية وحقوق الإنسان على وضع دراسةٍ أخرى حول التوجيه الأكاديمي والمهني. فيما تعمل لجان أخرى حول نظام الطبابة، وحول التقاعد والحماية الاجتماعية.
وفي سياق الدينامية نفسها، ندعو الحكومة الجديدة إلى مؤازرتنا من خلال تحصيص جلسات خاصة بالحوار الاجتماعي على مستوى الوطن، على أن يضع المجلس الاقتصادي والاجتماعي بتصرفها كل طاقاته.
كما ندعو المجتمع المدني والجمعيات المتخصصة بالشؤون الاجتماعية المختلفة الى المشاركة وتقديم خبراتها في هذا الحوار، إنطلاقاً من المسؤولية المشتركة للجميع أمام هذا الواقع.
ومن جهة أخرى، ندعو الناس جميعاً إلى المزيد من التمافل والتضامن والتمسك بأصالة اللبناني وقيمه العائلية والإيمانية التي تدعونا دوماً إلى المساعدة والمؤازرة والتعاضد فيما بيننا، خصوصاً في المراحل الصعبة التي لطالما تجاوزها اللبنانيون معاً.
ختاماً، نحن نرى في هذه المحطة تحدياً جديداً وتجربة جديدة، سنخرج منها بدروسٍ جديدة، وسوف نتجاوزها معاً، لأننا نؤمن بلبنان، وبقدرتنا على إعادة الأمل لكل أبٍ يطلب لأبنائه ما طلبه جورج زريق.