وارف قميحة- رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني الصيني
بكل وضوح قالها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال مقابلة مع قناة “فوكس نيوز”، رداً على سؤال عن نهاية الحرب التجارية، إن “الاقتصاد الصيني كان سيتجاوز الأميركي لو أصبحت هيلاري كلينتون رئيسة، لو حدث ذلك لكانت الصين اقتصادياً أكبر بكثير من الولايات المتحدة بحلول نهاية فترة ولايتها، والآن لن تكون حتى قريبة”. وشدد على أن الصين لن تحل محل الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عظمى رائدة في العالم خلال فترة رئاسته. ربما هذه الكلمات القليلة تعبر عن الاسباب الكامنة وراء التوترات التجارية المفتعلة بين الولايات المتحدة والصين.
بلغة الأرقام، ووفقاً للبنك الدولي ساهمت الصين بأكثر من 30% في نمو الاقتصاد العالمي خلال الفترة من عام 2013 حتى عام 2017، متجاوزة بذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان.
وأظهرت أحدث نشرة إحصائية أصدرتها منظمة التجارة العالمية أن واردات الصين احتلت 10,2% بينما احتلت صادراتها 12,8 % من الإجمالي العالمي في عام 2017 لتحتل المرتبة الثانية والاولى على التوالي.
معدل النمو الذي كان متوقعاً لاقتصاد الصين في العام 2018 هو 6,5% وهو أعلى بكثير من معدل نمو الاقتصاد العالمي الذي بلغ 3,7% ويتوقع صندوق النقد الدولي أن نمو الاقتصاد العالمي في 2019 لن يختلف كثيرا عن 2018 .
لا شك في أن النمو الاقتصادي الكبير للصين قد جاء بشكل كبير مدفوعاً بالصادرات الضخمة للصين والتي أدت إلى فوائض كبيرة في الحساب الجاري خصوصاً وميزان المدفوعات عموماً. ونشير هنا إلى تحقيق الصين فائضاً في حسابها الجاري عام 2013 بلغ نحو 223.74 مليار دولار (مقابل فائض 20.52 ملياراً عام 2000). في المقابل، حققت الولايات المتحدة عجزاً بلغ 451.46 مليار دولار عام 2013 (مقابل عجز بلغ 416.32 مليار دولار عام 2000).
وفي وقت سابق، توقع اقتصاديون من المجموعة المالية “HSBC Holdings Plc”، أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، حيث سيبلغ إجمالي الناتج المحلي في العام المذكور 26 تريليون دولار.
وهذه التوقعات تتطابق مع نظرة صندوق النقد الدولي للاقتصاد الصيني، الذي قال أيضاً إن الصين قد تصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030.
أسباب التوتر
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي، استشعرت الولايات المتحدة خطورة نمو الصين الاقتصادي وما يمكن أن يشكله ذلك من تهديد لسيادتها العالم، وبناء على ذلك وضعت مجموعة من الخطط لاحتواء الصين على المستوى الدولي والإقليمي.
تطورت هذه الخطط خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما، وتبلورت عبر مشروعين هما مشروع “محور آسيا” ومعاهدة التجارة الحرّة المسمى “التجارة عبر الهادي”، التي ضمت كل دول شرق آسيا باستثناء الصين، واعتمدت على توفير حوافز اقتصادية لهذه الدول لتجعل ارتباطها بأميركا أقوى من ارتباطها بالصين. كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أعلن في كانون الثاني 2018 انسحاب بلاده من الاتفاقية المنتظرة، تنفيذاً لتعهداته الانتخابية.
السبب العميق بين بيجينغ وواشنطن من المجال التجاري غلى المجال الاقتصادي وغيره من المجالات حيث تشكو الولايات المتحدة دائماً من أن الصين تبقي عملتها أقل من قيمتها الحقيقية بشكل مصطنع، الامر الذي يساعد المصدرين الصينيين على زيادة صادراتهم – وبخاصة إلى الولايات المتحدة – بصورة ‘غير عادلة’. كما تتهمها بتحقيق فائض ضخم من تجارتها معها بسبب انخفاض قيمة عملتها مما يجعل الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة أقل تكلفة والواردات من الولايات المتحدة أكثر تكلفة.
وتتهم الولايات المتحدة الصين باستمرار بقرصنة المنتجات الأميركية. كما تشكو الشركات الأميركية التي تستثمر في الصين من سرقة حقوق الملكية الفكرية، والمزايا غير العادلة التي يتمتع بها المنافسون المحليون.
كذلك يتصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين ليشمل السباق الحصول على المواد الأولية وبخاصة من أفريقيا وأميركا اللاتينية.
ومن الاميركية لا سيما الاجراءات التي اتخذت مؤخرا بحق شركة هواوي الصينية، وتقلق أميركا من احتمال خفض الصين للإمدادات من هذه المعادن النادرة.
أما السبب المباشر فهو أن إدارة الأمور الأخرى التي تزيد التوتر بين البلدين أن الصين تنتج نحو 97% من عناصر المعادن النادرة (تستخدم في الإلكترونيات الاستهلاكية ذات التكنولوجيا الفائقة والعتاد العسكري وغيرها من الكثير من الصناعات الاستراتيجية)، هذا السلاح الذي تهدد به الصين في استخدامه للرد على الإجراءات الحمائية لترامب. وكانت ادارة باراك اوباما قد حولت سياستها التجارية من التعددية الى الإقليمية. ولكن بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة، تخلى عن السياسة التجارية التي تعطي الأولوية لتحرير التجارة الاقليمية طمعاً في المزيد من النفوذ، وركزت سياسته على إكراه الطرف الآخر على ممارسة تحرير التجارة مقابل الحصول على معاملة أفضل من الولايات المتحدة الاميركية. لذلك، ليس من الصعب فهم إجراءات إدارة ترامب المتشددة لفرض الرسوم الجمركية.
الصراع هو تجليات للتنافس بين قوة عالمية صاعدة وقوة أخرى مهيمنة يتقلص دورها ببطء يوماً بعد يوم. كما انها تنافس بين الديبلوماسية الصينية القائمة على الشمول وتكافؤ الفرص واحترام تنوع الثقافات والأنظمة السياسية وبين ديبلوماسية قائمة على الأحادية والهيمنة والعنجهية والابتزاز.
ماذا عن الصين وثوابتها؟
سجل الاقتصاد الصيني نموّاً أكبر مما كان متوقعاً في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2019 بعدما ساهمت الخطوات التي اتّخذتها الحكومة لدفع النمو في التعويض عن ضعف الطلب العالمي والحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وبلغت نسبة النموّ 6.4 في المئة، لتندرج ضمن سلسلة معايير تشير إلى استقرار ثاني أكبر قوة اقتصادية بعد التباطؤ الذي شهدته الصين العام الماضي.
لم تتخذ الصين تدابير تخل بالنظام التجاري العالمي، مثلما فعلت الولايات المتحدة الأميركية، بدلاً من ذلك، نفذت الصين مزيداً من الإجراءات لتوسيع الإصلاح والانفتاح لمصلحة العالم تحت راية المنفعة المتبادلة والكسب المشترك، فقد:
– خفضت الصين القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية لدخول الأسواق الصينية لزيادة الفرص الاستثماري-
-عملت الصين على تحسين بيئة ممارسة التجارة لجذب المستثمرين الأجانب.
– معرض الصين الدولي للاستيراد “معرض شانغهاي”، افتتح المعرض في 5 تشرين الثاني 2018 الذي جذب 172 دولة ومنطقة ومنظمة دولية من خمس قارات وما يزيد على 3600 شركة في الحدث الذي استمر ستة أيام وجذب ما يزيد على 400 ألف مشتر محلي وأجنبي أظهرت بيانات رسمية أنه تم توقيع عقود لشراء بضائع وخدمات لمدة عام بقيمة إجمالية بلغت 57.83 مليار دولار أميركي.
– تعهدت الصين بتعزيز حماية الملكية الفكرية استجابة لمخاوف الشركات الاجنبية.
– أخذت الصين زمام المبادرة لتوسيع الواردات من طريق خفض التعريفات الجمركية لبعض السلع.
في الثاني من حزيران 2019 نشرت الصين كتاباً أبيض لتوضيح الحقائق حول علاقاتاتها الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة الاميركية، ولعرض موقفها بشأن الاحتكاكات التجارية مع واشنطن وسعيها نحو حلول معقولة. أبرز ما جاء في الكتاب الأبيض أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة لها أهمية بارزة بالنسبة للمصالح الأساسية للشعبين وكذلك لاستقرار الاقتصاد العالمي وتنميته. وتلحق الاحتكاكات الاقتصادية والتجارية التي تقودها الولايات المتحدة أضراراً بمصالح البلدين والعالم كله. كما أشار الكتاب الأبيض إلى أنه منذ بدء المشاورات الاقتصادية والتجارية في شباط/فبراير 2018، أحرز تقدم كبير، حيث توصل البلدان إلى إجماع حول معظم المحتويات، ولكن المشاورات شهدت تحولات ومنعطفات أيضاً، وهذا يرجع إلى أن الولايات المتحدة كانت متمردة وغير صادقة في المشاورات الاقتصادية والتجارية الصينية الأميركية .وحدد الكتاب الأبيض الثوابت الصينية المتمثلة بالتالي:
– بالنسبة للصين والولايات المتحدة إن التعاون يخدم مصالح البلدين، وإن الصراع يمكن أن يضر بكليهما، وإن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد للجانبين.
– مع ذلك، يجب أن يقوم التعاون على مبادئ، وهناك خطوط أساسية في المشاورات. إن الصين لن تتنازل في القضايا المبدئية الرئيسية.
– في الواقع، في عالم العولمة في الأيام الراهنة، يتكامل الاقتصادان الصيني والأميركي تكاملا عاليا ويشكلان معاً سلسلة صناعية كاملة. ما يلزم أن يكون الاقتصادان في اتحاد يحقق المصالح المشتركة والفوز المتبادل بشكل طبيعي. كما أن اعتبار العجز التجاري بمثابة خسارة للولايات المتحدة أمر خاطئ.
– من المتوقع أن تكون زيادة التعريفات الجمركية الأميركية على الصين، بعيدة من حل القضايا، حيث ستجعل الأمور أكثر سوءاً فقط لجميع الأطراف. إن الصين تقف موقفاً معارضاً بثبات.
– فرضت الإدارة الأميركية “ولاية طويلة الذراع” وعقوبات على شركة “هواوي” وشركات صينية أخرى على قواعد وأسس مفبركة تتعلق بالأمن القومي الأميركي، وهو أمر تعارضه الصين أيضا وبشدة.
– المشاورات الاقتصادية والتجارية الصنيية الأميركية منذ إطلاقها في شباط/فبراير 2018، قطعت شوطاً حتى تم التوصل لاتفاق على معظم أجزاء الصفقة. إلا أن المشاورات لم تكن خالية من النكسات، كل منها كان نتيجة لخرق الولايات المتحدة للتوافق والالتزام والتراجع.
-أثبتت التجربة التاريخية أن أي محاولة لفرض صفقة من خلال تكتيكات مثل التشويه والتقويض والضغوط المتناهية، لن تفسد سوى العلاقة التعاونية، فيما ستضيع الفرص التاريخية.
– أحد الشروط الأساسية لاتفاق تجاري هو أن تلغي الولايات المتحدة جميع الرسوم الجمركية الإضافية المفروضة على الصادرات الصينية وأن يكون شراء الصين للسلع الأميركية واقعياً مع ضمان تحقيق توازن مناسب في نص الاتفاق بما يخدم المصالح المشتركة للجانبين.
– إن الصين منفتحة على التفاوض، لكنها ستقاتل حتى النهاية إذا لزم الأمر.
-يعتبر تطور وتنمية الصين من خلال الإصلاح والانفتاح، هو الحل الأساسي للاحتكاكات الاقتصادية والتجارية.
تعزيز الاستقرار الداخلي للصين
إن الصين ترسم سياستها الاقتصادية باتجاه تعزيز الاستقرار الداخلي في مواجهة عدم اليقين الخارجي، وهو ما يتبدّى في العديد من المؤشرات، وأبرزها نمو جيل جديد من الشركات المبتكرة خلال الأرباع الثلاثة الأولى لعام 2018. تجاوز عدد الشركات المسجلة حديثاً الخمسة ملايين، مع زيادة يومية أكثر من ثمانية عشر ألف شركة في المتوسط.
بلغ نمو صناعات التكنولوجيا المتقدمة 11,8 % وصناعات تصنيع المعدات 8,6% والصناعات الاستراتجية الناشئة 8,8% وارتفاع معدلات مبيعات التجزئة عبر الانترنت بنسبة 27,7 %، واستقرار التوظيف، وزيادة الدخل خلال الارباع الثلاثة الأولى من عام 2018، تم إيجاد أكثر من 11 مليون وظيفة في المناطق الحضرية، بجانب جهود حثيثة لتنويع العلاقات التجارية، مما يعني أن ثمة “خطة ب” موضوعة بالفعل لمواجهة السيناريوات الأكثر سوءاً.
للرئيس الصيني شي جينبينغ مقولة “علينا بذل الجهود الحثيثة وأن نتقدم بإرادة لا تعرف الهوان من أجل دفع قضيتنا العظيمة – قضية بناء الاشتراكية بخصائص صينية – إلى الأمام، وأن نكافح من أجل تحقيق الحلم الصيني بالتجديد العظيم للأمة الصينية.” و “من أجل الوصول إلى نهاية الطريق الصينية، علينا نشر الروح الصينية التي تجمع بين روح الأمة التي تمثل الوطنية قلبها من جانب، وروح العصر التي أساسها الإصلاح والابتكار.”
ماذا عن المستقبل؟
منذ أن أطلق الرئيس دونالد ترامب شعار “أميركا أولاً” وتخليه عن المعايير الاساسية للعلاقات الدولية المتمثلة في الاحترام المتبادل والتشاور المتكافىء وممارسة سياسة العنجهية والاحادية والحماية والهيمنة الاقتصادية قابلته حكمة من الجانب الصيني حيث بذلت جهوداً كبيرة لتحقيق الاستقرار في العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة الاميركية. الحكمة الصينية والمرونة، ولكن في الوقت نفسه، فإن الصين لا يمكن أن تتهاون بـ “المصالح الجوهرية للدولة”. ان حسم التنافس بين بيجينغ وواشنطن سيظل مرهونا بقدرة كل منهما على ادارته بحكمة دون الانزلاق الى حافة هاوية قد تكلفهما معا ثمناً باهظاً.
لذا لن تبتلع الصين الثمرة المرة التي تضر بسيادتها وأمنها ومصالحها وتنميتها على حد تعبير الرئيس الصيني شي جينبينغ .