أقامت أكاديمية بشير الجميّل لقاء حواريًا مع صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي حول مبادرة الحياد الناشط التي كان قد أطلقها غبطته في الخامس من شهر تموز الماضي، في جامعة الروح القدس – الكسليك، في حضور قدس الأب العام الأباتي نعمة الله الهاشم الرئيس العام للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، والسيدة صولانج الجميّل، والآباء المدبرين، ورئيس الجامعة الأب طلال هاشم، الوزير السابق سجعان القزي ورئيس أكاديمية بشير الجميّل المهندس الفرد ماضي، وأعضاء مجلس الجامعة، وفعاليات سياسية وروحية واعلامية واجتماعية وطلاب الأكاديمية…
الأب طلال
استهل اللقاء بالنشيد الوطني اللبناني ثم كانت كلمة ترحيبية لرئيس الجامعة الأب طلال هاشم شدد فيها أمام صاحب الغبطة على “أنه من خلال عملنا الجامعيّ في أكاديمية الرئيس الشيخ بشير الجميل، نريد التأكيد على الأمانة للتاريخ وعلى أهميّة الفكر والحوار. من خلال هذا العمل ننفتح على الجميع ونجدّد التأكيد على المسؤولية الاجتماعيّة (social responsibility) التي تضطلع بها جامعتنا. إنّ تعميق الجودة في العمل الجامعي وملاقاة حركة الاعتماد (accreditation) والتصنيف (ranking) هما من نشاطات الجامعة الأساسيّة. لذا، نسعى سعيًا دؤوبًا الى تنشيط الحركة الفكريّة والأبحاث، ولذا، فيما أشكر من القلب القيّمين المباشرين على الأكاديميّة على نشاطهم، أجدّد أمامهم أمنيتي الحارة بأن يفعّلوا أكثر الأبحاث المتعلقة بأرشيف الرئيس بشير الجميل”.
وتابع: “في جميع أعمالنا نريد المحافظة على لون جامعتنا التي تتلوّن بلون واحد فقط، هو لون الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة. إنّ ذلك هو مدعاة فخر كبير لنا، لأنّ رهبانيّتنا قد تكون الوحيدة في العالم التي وضعت اسم الوطن في اسمها، علامة على العلاقة العضويّة التي تربطها به. وجدانها ووجدانه يتحاكيان على الدوام. من هذا المنطلق أيضًا، تحوي جامعتنا أرشيف شخصيّات لبنانيّة نفتخر بها. في إطار الكلام عن رهبانيّـتنا، أود أن أوجّه كلمة شكر، ملؤها العاطفة البنويّة، الى قدس الأب العام نعمة الله الهاشم الرئيس العام لرهبانيّتنا السامي الاحترام، على كلّ العناية والدعم والتشجيع التي يبديها تجاه جامعتنا، وعلى إظهار لون الرهبانيّة بهيًّا، في انفتاح خفور ووقور على الجميع وعلى كلّ مكوّنات المجتمع اللبنانيّ. معه أشكر مجمع الرئاسة العامة الموقّر الذي لا يوفر جهدًا لكي تلعب الجامعة دورها على أكمل وجه”.
ماضي
ثم كانت كلمة لرئيس أكاديمية بشير الجميّل المهندس ألفرد ماضي قال فيها: “منذ مئات السنين جاء جدودنا إلى جبال لبنان هربًا من الإضطهاد وسكنوا المغاور والجبال والوديان وحفروا الصخر طلبًا للحرية والأمن وحفاظًا على كرامة الإنسان فكان لبنان “مبادرةً مسيحية” لتأمين ما ذكرت آنفًا لهمْ ولكل من يريد أنْ يعيش معهم بسلام وأمن وحرية…”
وأضاف: “كما حصل في السابق نحن اليوم على أبواب مجاعة كبرى من الممكن أن تكون أعظم وأخطر من مجاعة الحرب العالمية الأولى حيث خسرنا ثلث سكان جبل لبنان، أمّا الآن، إذا لم نتدارك الحالة التي نحن فيها، من الممكن أن نخسر وجودنا المسيحي الحر، فنخسر الأرض والإنسان معًا ونكون الخاسر الأكبر في لعبة الأمم، التي تدور حولنا الآن ونحن في ثبات عميق”.
وتابع: “لقد قدمتم يا صاحب الغبطة من خلال الكنيسة والجمعيات التي تدور في فلك بكركي ما فيه الكفاية وكنتم الباحثين في المجال. ولأن المشكلة كبيرةً وكبيرةً جدًا، على الشعب وخاصةً الميسورين منهم أن يتكابلوا ويتضامنوا مع المحتاجين فنتقاسم لقمة العيش معًا لنحافظ على الإنسان والأرض من أجل وجودنا وكرامة الإنسان في لبنان. لذلك، نتمنى، وبكل احترام على غبطتكم أن تدعو إلى مؤتمر مسيحي يجمع الكنائس والأحزاب والجمعيات الأهلية عنوانه بند واحد “التضامنْ الأهليّ – مؤتمر العطاء” فيتحول المجتمع إلى ورشة عمل في خدمة الإنسان. على أن يتبعه تحريك ليس فقط لعالم الإنتشار اللبناني بل أيضًا كل اللوبيات المسيحية وغير المسيحية المتعاطفة معنا في أميركا والعالم. وكل هذا من أجل أن نطعم الجائع، ونسقي العطشان ونطبب المريض ونكسو العريان ونأوي المشرد ونواسي المحزون والمسجون فنستحق عن جدارة كما جاء في إنجيل القديس متى 25: “أن نكون خراف سيدنا يسوع المسيح”.
البطريرك الراعي
بعدها القى البطريرك الراعي كلمة استهلها باعتبار الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميل “شهيد حياد لبنان” لأنه كان ينادي بالدولة اللبنانية الحرّة وتوحيد الجيش اللبناني ووضع حد لكل الميليشيات ما يعطي للبنان دوره ورسالته، وقال:”بعد اعلاننا مبادرة الحياد في عظة الخامس من تموز الماضي لاحظنا كثافة المقالات وردود الفعل حولها لذلك عرضنا في وثيقة خاصة توضيحا حول ما تعنيه هذه المبادرة واهدافها. هذا الحياد هو من عمق الهوية اللبنانية وهو ناشط بسبب دوره الفاعل. لم يولد الحياد نتيجة مبادرة من البطريرك او من الصرح في بكركي وانما هو الكيان اللبناني الذي نستعيده، وما يؤكد ذلك ردود الفعل القوية التي اظهرت وكأن اللبنانيين الذين احسوا بضياع هويتهم عادوا وعثروا عليها. ووثيقة الحياد هذه وضعت في متناول الراي العام اللبناني ليطلع اكثر على المعنى الحقيقي للحياد واهميته ونتيجته. وفي هذا السياق سلّمنا كافة السفراء الذين التقيناهم هذه الوثيقة وهم جميعا من عرب وغربيين ابدوا حماسة لموضوع حياد لبنان نظرا لقيمة هذا الوطن.”
وتابع غبطته: “الحياد في لبنان هو مبدأ وقاعدة ومصير. انه مبدأ لأنه يشكل ركيزة للميثاق الوطني اي لا شرق ولا غرب اي استقلال تام عن كل الدول لا وصاية ولا حماية ولا امتياز ولا مركز ارتكاز كما قال الرئيس بشارة الخوري في العام 1945. لبنان متساوي مع باقي الدول وغير تابع لأي منها. بدوره اكد رئيس الحكومة رياض الصلح على حياد لبنان عندما قال نحن نريد لبنان سيدا عزيزا حرا لا ممرا ولا مقرا. والحياد هو قاعدة ايضا بسبب سياسته ونهجه وايديولوجيته السياسية، كما انه المصير ذلك ان خلاص ومستقبل لبنان المشرق يتأمن من خلاله. انه ضرورة وطنية ليستمر لبنان وهذا ما عايشناه منذ ال1920 حتى 89 حتى بعد اتفاق القاهرة 67 الذي تسبب بالإجتياح الإسرائيلي والدخول السوري ونشوء الميليشيات والحرب الاهلية والتي مع بدايتها ظهر نجم بشير الجميل الذي اراد اعادة الوضع الى ما كان عليه.”
واضاف غبطته: “عاش لبنان على الرغم من كل ذلك فترة بحبوحة على الرغم من كل الخضّات التي شهدتها المنطقة لأنه كان محايدا. وبحكم نظام لبنان التعددي والثقافي والديني هو مكان للتلاقي والحوار وهو مكان العيش المسيحي والإسلامي غير الموجود في اي مكان وخصوصا انه قائم على الإنتماء للمواطنة. في كيانه الأساسي لبنان دولة مدنية تفصل بين الدين والدولة ولكنهم شوّهوا هذه الدولة بممارساتهم الطائفية. نظامه ديمقراطي يعتمد الحريات العامة والإنفتاح على الدول انه رسالة حرية وتعددية للشرق والغرب. مؤسساته المالية ونظامه الإقتصادي الحر يشكلان حاجزا في وجه الانظمة التوتاليتارية. نعم لبنان حيادي بهويته وكيانه. الامير طلال بن عبد العزيز آل سعود مع ما يمثله من صوت عربي قال عن لبنان ان حياد لبنان قوة له وللعرب وابعاده عن التجاذبات الإقليمية التي تهدد وحدته وسلامة اهله هو ضرورة. هذا الحياد يعصم لبنان عن التداعيات الخطيرة للصراعات المحتدمة في المنطقة. للبنان وضع خاص باعتباره في وضع نزاع مع اسرائيل ولكن حياده يحول دون تحويله الى ساحة نزاع للدول على ارضه.”
وقال غبطته: “يجب ان يكون لبنان حياديّا ناشطا. اي عدم دخوله في احلاف ومحاور وصراعات اقليمية او دولية ومنع اي تدخل اقليمي او دولي في شؤونه او استخدام اراضيه. لذلك يجب تعزيز الدولة اللبنانية كما ارادها الشيخ بشير الجميل بجيش قوي ومؤسسات تخضع للقانون ووحدة داخلية تمكن لبنان من مواجهة اي خطر من اي دولة سواء اسرائيل او غيرها. كلنا نتذكر انتخاب الشيخ بشير وكيف انه في خلال 21 يوما انتظمت امور البلد والإدارات والوزارات لقد استعمل شخصيته فقط ولطالما كمن سره في شخصيته لم يستخدم السلاح او اي منطق ترهيب او تهويل اخر. اين نحن اليوم من هذا الانتظام. كل واحد يفتح على حسابه فنرى العدالة الاختيارية الكيدية الانتقائية والسلاح المتفلّت وغيرها من الشوائب.”
وشدد غبطته على اهمية فك ارتباط قضية لبنان بقضية الشرق الأوسط لافتا الى ان الحل بسيط بتنفيذ القرار 425 والقرارات ذات الصلة. اما حل قضية الشرق الأوسط فهي تستند الى القرار 242، لذلك قضية لبنان لا علاقة لها بقضية الشرق الأوسط. اين هي القضية الفلسطينية اليوم وعودة اللاجئين الى ارضهم؟ ما من حل. لماذا ادخلونا بالقوة في قضية الشرق الاوسط؟ لبنان في حياده لا يدخل في هذه القضية فنحن لا نفاوض اسرائيل بل هناك قرارا دوليا بخروجها من ارضنا. وموقع لبنان الجغرافي بين سوريا واسرائيل هو مهم ايضا سيما وان الدولتين لديهما اطماعهما في لبنان. لقد صمد لبنان في وجه مشروع اسرائيل الكبرى وسوريا الكبرى ولذلك يريد الحياد ليكمل رسالته وعلى الأسرة الدولية مساعدته ليكون محايدا ليستعيد قيمته ودوره في المنطقة.”
ورأى غبطته “ان لبنان مريض ولكن علينا مساعدته والحفاظ عليه لانه كرامتنا ومستقبلنا وتاريخنا وقيمة الحياد الناشط في لبنان انه يولد الإستقرار السياسي وهذا يؤمن اطارا للنمو الإقتصادي. والحياد ينقذ وحدة لبنان ارضا وشعبا ويحيي الشراكة المسيحية الإسلامية المتصدعة بسبب حروب المنطقة. الحياد يساهم في استقرار وسلام المنطقة. في الماضي كان لبنان خزنة الشرق الأوسط اي ان البلاد العربية كان لديها الثقة بالمصارف اللبنانية اضافة الى المستوى الطبي والإستشفائي والتعليمي العالي المستوى والسياحة وكل هذا يرتكز على حياد لبنان.
وفي الختام اجاب غبطته على عدد من الأسئلة التي طرحها الطلاب ومن ضمنها تفعيل مبادرة الحياد، فاكد ان “الوثيقة اطلقت لكي يفهم العالم معنى الحياد وبالتالي سيكون هناك مؤتمرات وورشات عمل لرجال العلم والسياسة من كل الطوائف للبحث في هذا الموضوع.”
وعن دور البطريركية في انشاء لبنان جديد ذات نظام لا مركزي اشار البطريرك الراعي الى”ان اللامركزية الإدارية الموسعة ننادي بها دائما ولكن هناك تحفظات من عدد من المناطق ولا سيما في ما يتعلق بمسألة المحاصصة. لذلك لا بد من ان تتم بعيدا عن مبدأ المحاصصة الذي بات اليوم موضة للأسف. فالتحدث والمطالبة باللامركزية الإدارية اليوم هو امر يتطلب الشجاعة.”
وبالنسبة لموضوع اراضي لاسا قال البطريرك:” للأسف وعلى الرغم من ان القانون معنا الا ان تطبيقه لا يتم والأرض مباحة. على الدولة ان تكون حرة وتفرض هيبتها. لقد تحدث رئيس الجمهورية عن جمهوريات داخل الجمهورية. ونحن نقول على الدولة ان تفرض حضورها وهيبتها وتؤمن تطبيق القانون والعدالة للجميع وعليهم.”
واوضح البطريرك ردا على سؤال حول طلب الفاتيكان سحب صيغة الفيديرالية من التداول “ان الصحافة اللبنانية تفبرك اخبارا لا صحة لها. الفدرالية او اللامركزية هي قضايا داخلية والفاتيكان لا يتدخل فيها لقد تحدثنا عن الحياد نعم لانه امر دولي. ولكن في لبنان كل شيء مباح.”
واكد غبطته ان “الكنيسة تخاطب الضمائر وتتحدث عن الثوابت ولا تتدخل في الشؤون الخاصة بالأشخاص. ولكنها لا تقوم باية حركة سياسية الكنيسة حرة في قول كلمتها وهي تحاور لأن الرب كلمة، لافتا الى “مواصلة تشجيع الحراك المدني شرط حفاظه على اداء حر ديمقراطي وحضاري يحقق النتائج المرجوة بدولة قوية قادرة على حماية مواطنيها وتأمين العيش الكريم لهم.”
وحول تعلم اللغة السريانية لفت البطريرك الى قوة الكنيسة في هذا الاطار من خلال مدارسها ومعاهدها وجامعاتها لخلق جيل مثقف لذلك “يجب تفعيل هذه القوة من خلال دعوة هذه المؤسسات الى تعليم الطلاب لغتنا الأساسية لما تشكله من مصدر غنى.”
وعن ضمان حياد لبنان شدد غبطته “على صيانة البيت الداخلي اولا وعدم انتظار الغير. من المعيب ان نسأل الغير عن حل لأزمتنا. مشكلتنا ان كل ما يتعلق بلبنان نحن غير معنيين به وكل ما هو خاص نناضل من اجله. الحياد يحمي الجميع وهو لكل الناس وليس لطرف دون اخر. انه الضمانة.”
وعن امكانية تسمية بكركي لوزراء في الحكومة اوضح غبطته ان “الكنيسة لم ولا تسمي احدا وليس هذا دورها. وعلى الرغم من ذلك فان احدا لم يسألها رأيها في هذا الإطار.”
وعن موقف الكنيسة من نظام جديد للبنان عرض البطريرك الراعي لجوهر النظام اللبناني “فهو نظام غير طائفي وانما حوّلوه الى طائفي. لبنان دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة ولكن الممارسات السياسية الطائفية خنقت مفهوم هذه الدولة. لذلك علينا المطالبة باستعادة الدولة المدنية وليس انشائها.
وختم غبطته مؤكدا ان الحياد يعيد الى لبنان هويته ودوره ورسالته القيّمة في هذا الشرق.