بقلم الباحثة القانونية في مجال الطاقة خديجة حكيـم
على الرغم مما يشكله ملف ترسيم الحدود البحرية اللبنانية من ملف حيوي قادر على إنعاش الوضع الاقتصادي الخانق في الدولة اللبنانية، إلا أن هذا الملف ومنذ عام 2007 ما زال فاقدًا لبوصلة طريقه. فعلى الطريقة اللبنانية تخضع جميع الملفات الحيوية للبازارات السياسية والسجالات الشعبوية التي تزيد من سوء الأزمات اليومية التي يعيشها المواطن اللبناني.
من هنا يقع على عاتق الرأي العام اللبناني مسؤولية الوعي، الوعي أولًا: بطبيعة ملف المفاوضات الغير مباشرة التي تجري برعاية الأمم المتحدة بوساطة أمريكية في الناقورة والتي لا تخرج عن كونها مفاوضات قانونية وتقنية بحته لا تخضع للتجاذبات السياسية الداخلية بين أحزاب السلطة ولا تشكل بأي شكل كان ورقة للتفاوض مع الخارج يمكن الإرتكان إليها لتحقيق مكاسب سياسية أو تخفيف عقوبات إقتصادية على أطراف داخلية.
والوعي ثانيًا: بأن الخطوط من خط “هوف” و(23) و(29) أو غيرها هي ليست مجرد خطوط اعتباطية تطرح بطريقة عبثية، بل تشكل إعتماد إحداها قاعدة لتثبيت حقوق الشعب اللبناني في استغلال موارده وثرواته الطبيعية والاقتصادية، وتغليب أحد هذه الخطوط على الآخر إنما يرتكز إلى دراسات وبراهين قانونية وتقنية وسوابق قضائية دولية في تسوية المنازعات البحرية. لذا فإن تمسك الوفد اللبناني المفاوض بالخط (29) في مفاوضاته الغير مباشرة لترسيم الحدود البحرية اللبنانية إنما يرتكز إلى معطيات قانونية وتقنية تشكل القاعدة الأقوى لمطالبة لبنان بحقوقه البحرية. فما هي هذه المعطيات؟ بداية لا بد من التنويه أن موقف الوفد اللبناني المفاوض للمطالبة بتثبيت حقوق لبنان في ثرواته البترولية انطلاقًا من الخط (29) الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برًا والممتد بحرًا تبعًا لتقنية خط الوسط من دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة أي جزيرة ” تخليت”، هو موقف ثابت منذ عودة جولة المفاوضات الغير مباشرة في الناقورة بتاريخ 14/10/2020، وكان يرتكز منذ البداية إلى دعم سياسي من الدولة، فالمفاوضات الأخيرة لم تنطلق إلا بناء على تكليف وتوجيهات من رئاسة الجمهورية المدونة في بيانها الصادر بتاريخ 13/10/2020 والتي أكدت فيه على ضرورة التمسك ببدء المفاوضات من الخط (29) ورفض حصر التفاوض بين الخط (1) والخط (23) كما يطالب الجانب الإسرائيلي. هذا الموقف الرسمي الذي عززته الدولة اللبنانية تاليًا في الكتاب المرسل إلى الأمم المتحدة بتاريخ 28/01/2022، حيث اعتبرت أن حقل “كاريش” – الواقع بين الخط (23) والخط (29)- حقلًا متنازع عليه فيما بين الطرفين مع المطالبة بمنع أي اعمال تنقيب في هذه المنطقة المتنازع عليها لما قد تشكله من اعتداء على حقوق وسيادة لبنان.
وانطلاقًا من الموقف الرسمي للدولة اللبنانية في اعتماد الخط (29) في المفاوضات الغير مباشرة يصبح السجال الإعلامي للتراجع إلى الخط (23) وحتى وإن صدر عن أطراف في السلطة التنفيذية مجرد موقف سياسي مبهم لا يمكن أن الإرتكان إليه ما لم تدعمه الحجج والبراهين القانونية والتقنية. فلماذا إذا الإصرار على اعتماد الخط (29)؟
أولًا: ترتكز المطالبة بالخط (29) على قواعد ومبادئ قانونية في ترسيم الحدود البحرية الدولية مدونة في المواد 15 و74 و83 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار(UNCLOS) والتي تعكس عرفًا دوليًا في هذا المجال.
ثانيًا: تدعم المطالبة بالخط (29) العديد من السوابق القضائية الدولية في المنازعات البحرية والتي كان آخرها نزاع ترسيم الحدود البحرية بين الصومال وكينيا.
ثالثًا: تفتقر قاعدة التفاوض من الخط (23) إلى حجج قانونية لتثبيت حق لبنان في مطالبته، مما قد يسقط هذا الخيار حال التمسك به وعند أول تفاوض جدي ويعيد قاعدة التفاوض إلا ما قبل خط هوف.
إنه من المؤكد أن إدارة هذا الملف الحيوي يجب أن تخضع للمسائلة والشفافية، فمن حقنا أن نسأل عن سبب رجوع هذا الملف إلى الوراء أشواطًا لا ندري إن كانت تعيدنا لنقطة الصفر، ولصالح من أن يترك الوفد اللبناني دون غطاء سياسي يحمي طروحاته التي تبناها والتي ترتكز إلى براهين قانونية وتقنية ومباركة رئاسية سحبت فجأة و دون إخطار ولأسباب يجهلها لتاريخه. ألا يحق للمواطن اللبناني أن يسأل عن القطبة المخفية في التباين بين النتائج التقنية والقانونية التي توصل إليها الوفد اللبناني المفاوض المكلف في التفاوض حول اعتماد الخط (29) والتي انطلقت منها جولة المفاوضات الأخيرة وبين موقف الرئاسة الأخير في العودة للوراء إلى الخط (23)؟ لصالح من هذه المماطلة في إدارة هذا الملف منذ العام 2007 لتاريخ اليوم رغم وجود استراتيجية واضحة ومتكاملة للملف في جوارير مجلس الوزراء. الوقت يمر و” الكيان الإسرائيلي” وحده المستفيد من التخبط الداخلي في إدارة هذا الملف فما هي إلا أيام وتصل سفينة الإنتاجFPSO EnergeanPower للبدء بالتنقيب في حقل ” كاريش” المتنازع عليه مع لبنان وعندها من يصبح المسؤول عن ضياع وهدر ثرواتنا.
على أمل أن يعكس التغيير الذي أفرزته نتائج الإنتخابات النيابية 2022 وعيًا مجتمعيًا لتشكيل لوبي وطني ضاغط لإعادة هذا الملف على المسار الصحيح حماية لحقوق الشعب اللبناني في ثرواته الطبيعية وقبل فوات الأوان.