بقلم الباحثة في القانون الدولي خديجة حكيم
إنّ حق الشعوب والأمم في السيادة الدائمة على ثروتها ومواردها الطبيعية وحق التصرف بها وفقًا لمصلحة إنمائها القومي ورفاهية شعب الدولة المعنية، هو حق أممي يحميه الميثاق الأممي والقرارات الدولية، التي تعدّ كل الدول بما فيها لبنان، ملزمة بتطبيقها واحترامها.
وأي خرق لهذا الحق أو المساس به من جانب الدولة يعدّ منافيًا لروح ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، ومعرقلًا لإنماء التعاون الدولي وصيانة السلم. ومن هنا، على الشعب اللبناني أن يعي أنّه مالك للثروة البترولية، وما الدولة إلا وكيلًا عنه في إدارة هذه الثروة، ضمن شروط تحقق مصلحته ورفاهيته وإنماءه.
غير أنّ الممارسة السيادية للسلطة في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للحفاظ على حقوق الشعب اللبناني في ثروته البترولية، تكشف عن سوء فهم لديها وقلة إدراك – على فرض حسن النية – في إدارة هذا الملف السيادي الحيوي، كغيره من الملفات الحيوية في البلد. فالشعب اليوم يبدو هائماً في متاهة خطوط ترسيم من الخط 29 و23 وخط «هوف»، وأخيرًا خط «هوكشتاين»، وأسيرًا لشعوره بانعدام الثقة بوكيله المفاوض عنه في هذا الملف. فلو فرضنا اننا وفّقنا في الحصول على أفضل طرح في ترسيم حدودنا البحرية الجنوبية، انطلاقًا من الخط 29، فهل يضمن الشعب اللبناني أنّ ثرواته البترولية الموجودة في المنطقة الاقتصادية الخالصة لن تُهدر مثلما هُدرت ودائعه وسُرقت في المصارف؟! ولِمَ لا؟ فأقطاب السلطة القابضون على زمام الدولة، ما زالوا يتعاطون بالنهج نفسه، وحتى تاريخه لم يُكشَف حسن نية على الأقل في إدارة هذا الملف، الذي يفترض خضوعه للمساءلة والشفافية، من بداية الأخطاء المرتكبة فيه منذ العام 2007، أي منذ تاريخ وقوع الخطأ في الإحداثيات التي حصلت في الاتفاق الثنائي الذي وقّعه لبنان مع قبرص، لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين وحتى اليوم.
إذاً ما الحل؟
لا خيار للشعب اللبناني إلّا أن ينتفض على وكيله في إدارة هذا الملف، في المساءلة أولًا والمطالبة بالشفافية ثانيًا، على أن يبقى الخيار للشعب في تقرير مصير الترسيم، كونه مالك الحق في الثروة البترولية. لكن بداية، وقبل الولوج إلى الآلية التي يمكن اعتمادها لاستخدام الشعب حقه في تقرير مصير ثروته البترولية، من الأفضل أن نعي حقيقة الواقع الذي نقف عنده!!
1ـ الخط 29: لم يكن الخط 29 مطلبًا سياديًا للدولة اللبنانية في مرحلةٍ ما، خلال ادارة هذا الملف منذ 2011، عندما تمّ تبنّيه لدى المكتب الهيدروغرافي البريطانيUKHO ومن ثم لاحقًا لدى الوفد اللبناني المفاوض، إلى تاريخ اعلان رئاسة الجمهورية في عام 2020 طرحه كخط تفاوض. فواقع الحال يكشف أنّ طرح الرئاسة هذا الخط كان على سبيل مناورات تفاوضية لمصالح واعتبارات حتمًا لم تصبّ في مصلحة الشعب اللبناني، والّا لكنا اليوم في وضع تفاوضي أقوى. وعليه يصبح الحديث عن حقل «كاريش» والمنطقة المتنازع عليها بين الخطين 23 و29، هو مناورات هدفها تضليل المواطن اللبناني. فالخط 29 لم يسقط سهوًا في مطالب الدولة اللبنانية في حديثها الاخير مع الوسيط الأميركي هوكشتاين، بل كان توجّهًا متفقًا عليه بين أقطاب السلطة. ويُطرح في هذا السياق سؤال للأمين العام لـ»حزب الله»، الذي يقف كما قال وراء الدولة في هذا الملف، عن السبب الذي دعاه إلى تسيير طائرات مسيّرة في اتجاه المنصة العائمة في «كاريش» إذا كانت الدولة إبتداءً تنازلت عن حقها في الخط 29، ومن ثم عن حقها في اعتبار هذا الحقل والمنطقة التي يقع فيها منطقة متنازعًا عليها! فهل نحن امام توجّه جديد للتفاوض أم مجرد مناورة اعلامية لإخماد لهيب الشكوك في ضياع حقوقنا؟
2 ـ الخط 23: تكشف المتابعة الحثيثة لملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية انّ الدولة تذهب إلى اعتماد الخط 23 كخط سيادي لحدودها البحرية الجنوبية، لذا يُعتبر الخط 23 هو آخر خط رسمته الدولة اللبنانية لحدود الرقع اللبنانية العشر التي عُرضت للمزايدة عليها للاستكشاف والتنقيب والانتاج. وهذا يؤكّده إصرار الدولة على عدم تعديل المرسوم 6433 لعام 2011، والذي تنتهي فيه الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية عند الخط 23.
وقد يكون من المفيد الإشارة هنا، الى أنّ العدو الإسرائيلي نفسه يعتمد هذا الخط كبداية لبلوكاته الشمالية وتحديدًا البلوك 72، حيث ينص صراحة في المادة 17 في دفتر الدعوة الى التلزيم، تحت بند شروط حصرية: «أنّ صاحب الترخيص بموجب هذا، يعلم أنّ منطقة الترخيص تقع بالقرب من الحافة الشمالية للمنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل. هذه الحقيقة إلى جانب المصالح السياسية والأمنية لإسرائيل، قد يكون لها أثر سلبي على الأنشطة المحتملة في منطقة الترخيص».
3ـ خط هوكشتاين: من دون الدخول في حدود هذا الخط الذي يدور حول الخط 23 مع تعرجات تستقطع من حقل قانا والرقعة الرقم 8 اللبنانية، فإنّه يرتكز على معادلة «هوكشتانية» واضحة: «لبنان حاليًا لا يملك شيئًا، وعليه القبول بما يُعرض عليه، بغض النظر عن حجم وأهمية الملف القانوني الذي يرتكز إليه». هذه المعادلة التي ترجمتها واقعًا البوارج الحربية الأميركية التي رست قبالة حقل «كاريش» بهدف توفير الحماية للمنصة العائمة.
هذا الواقع المقلق الذي يشوبه كثير من التكتم من الجانب اللبناني، على الرغم من أصوات التخبّط التي تعلوه، يعطي الحق للشعب اللبناني في أن يتوجّه الى الرئاسات الثلاث للمطالبة باعتماد الشفافية في هذا الملف، ولتكشف كل الأوراق على طاولة الوطن، ويُترك الخيار للشعب في تقرير مصير ثرواته البترولية باستفتاء شعبي يُترك فيه للمواطن مالك الثروة، الحق في الخيار وتقرير مصير ملفه، ومن ثم يتحمّل تبعات خياره.