بقلم: غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
أعلنت وزارة شؤون الشركات في الهند أن مكافحة فيروس كورونا سيكون نشاطاً مؤهلاً على أجندة الإنفاق للشركات تحت مظلة المسؤولية المجتمعية للشركات. وقالت وزيرة المالية نيرمالا سيتارامان أنه “في ضوء انتشار الفيروس وإعلانه جائحة وفقاً لمنظمة الصحة العالمية وقرار الحكومة الهندية التعامل مع هذه الكارثة، فإنه سيتم إعتبار الإنفاق على مكافحة هذا الفيروس مؤهلاً كنشاط من أنشطة المسؤولية المجتمعية للشركات”. وبموجب قانون الشركات، يتعيّن على فئات معينة من الكيانات المربحة أن تنفق 2% من صافي أرباحها السنوية لمدة ثلاث سنوات تجاه أنشطة المسؤولية الاجتماعية. ووفقاً للحكومة، سيتم إعتبار إنفاق الشركات في معالجة تفشي كورونا بمثابة أنشطة المسؤولية الاجتماعية للشركات.
لطالما كانت المسؤولية الاجتماعية هاجساً لدى الكثير من الحكومات والشعوب على حد سواء، وكثيراً ما تداولت المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي هذا المصطلح ولكن في الغالب الأعم من جانب واحد فقط، وهو الجانب المتعلق بالمنشآت التجارية ورجال الأعمال، ويعني ذلك مدى مساهمة (تبرع) المنشآت ورجال الأعمال للقيام ببعض المشروعات التي يعتبر المجتمع بحاجة ماسة لها، ولقد حظي هذا المفهوم باهتمام واسع باعتباره مؤشراً يحدد مدى انتماء المنشآت لمجتمعاتها، لكن هذا المفهوم توسع بشكل أعمق ليشمل جميع المنشآت الربحية وغير الربحية بل وحتى مسؤولية المواطن تجاه بلده.
المسؤولية الاجتماعية ليست فقط -كما يعتقد البعض- مجرد قوانين تقوم دولة ما بوضعها لتشجيع مبادرات القطاع الخاص تجاه المجتمع، بل هي ثقافة تعبّر عن سلوك وحضارة مجتمع بأكمله. المسؤولية الاجتماعية ثقافة أخلاقية في المقام الأول تلزم كل منشأة وفرد بما يساهم في تطوير المجتمعات وتحقيق الصالح العام، إنها تعني ببساطة نوعًا من التكافل الاجتماعي وتتجلى خاصة في أوقات الأزمات الطارئة وفي حالات الكوارث.
لقد دأبت معظم دول العالم على تشجيع المبادرات المجتمعية من خلال تكريم القائمين عليها. وفي الآونة الأخيرة عاد هذا المفهوم مجدداً وبقوة ليفرض نفسه على الساحة في ظل الأزمة الحالية التي تشهدها الكثير من دول العالم والمتعلقة بتفشي فايروس كورونا. ومن خلال تتبّع مواقع التواصل الاجتماعي يتساءل الكثيرون عن دور المؤسسات الربحية في ظل الأزمة الحالية، فهذه الأزمة الصحية تتطلب تكاتف الجميع مع الحكومات للتخفيف من آثارها السلبية، وخاصة في ضوء الإجراءات الاحترازية التي قامت بها حكومات عدة، لاسيما في الدول المتقدمة والغنية، من خلال حزمة من إجراءات التحفيز والمساعدات والإعلانات والمبادرات المختلفة.
ما هي المسؤولية المجتمعية للشركات؟
إن الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية ليس بعيداً عن الأديان السماوية التي حثت الناس على التعاون من أجل خير المجتمع والحفاظ على البيئة، وركزت على أهمية الاهتمام بحسن استغلال الموارد وعدم الإسراف والتبذير وعدم إهمال حق الأجيال القادمة. وتكتسب المسؤولية الاجتماعية للشركات أهمية بالغة باعتبارها حجر الزاوية وأداة مهمة للتخفيف من سيطرة العولمة، حيث يمثّل القطاع الخاص والشركات الجزء الأكبر والأساسي في النظام الاقتصادي العالمي، وعليه أصبح الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية مطلباً أساسياً للحد من الفقر من خلال التزام المؤسسات الاقتصادية (شركات محلية أو مؤسسات دولية) بتوفير البيئة المناسبة وعدم تبديد الموارد والقيام بعمليات التوظيف والتدريب ورفع القدرات البشرية وتمكين المرأة ورفع قدراتها ومهاراتها بما يؤهلها للمشاركة في عملية التنمية المستدامة، ومساندة الفئات الأكثر احتياجًا.
إن نجاح قيام الشركات بدورها في المسؤولية الاجتماعية يعتمد أساسًا على التزامها بثلاثة معايير هي: الاحترام والمسؤولية تجاه العاملين وأفراد المجتمع، ودعم المجتمع ومساندته، وحماية البيئة، سواء من حيث الالتزام بتوافق المنتج الذي تقدمه الشركة للمجتمع مع البيئة، أو من حيث المبادرة بتقديم ما يخدم البيئة، ويحسِّن من الظروف البيئية في المجتمع ويعالج المشاكل البيئية المختلفة. وترتبط المسؤولية الاجتماعية للشركات ارتباطًا وثيقًا بمفهوم “التنمية المستدامة”. ففي عام ۱۹۸۷، خلص تقرير برونتلاند إلى أن النموذج الحالي للتنمية الاقتصادية لا يمكن أن يدوم على المدى البعيد، حيث إنه يتسبب في نفاذ الموارد الطبيعية وإيذاء المجتمع. وقد عرّف التقرير “التنمية المستدامة” بأنها “التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها”. ويعتمد مفهوم التنمية المستدامة هذا على ثلاثة عناصر رئيسية هي: حماية البيئة والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. وفي مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية الذي عقد في ريو دي جانيرو في عام ۱۹۹۲، اعتمد زعماء أكثر من 100 بلد جدول أعمال القرن ۲۱ وهو خطة لتحقيق التنمية المستدامة في القرن الحادي والعشرين. وتتولى لجنة التنمية المستدامة التابعة لمجلس الأمم المتحدة الاقتصادي والاجتماعي مراقبة الحكومات التي وافقت على تنفيذ هذه الخطة في بلدانها. وقد وصف جدول أعمال القرن ۲۱ الشركات العابرة للقارات بأنها تؤدي دورًا حيويًا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول(1).
الأمم المتحدة أخذت على عاتقها مهمة اشراك مجتمع الأعمال بوجه عام، والشركات العابرة للحدود بوجه خاص، في الجهود التي تبذلها من أجل حل مشاكل التنمية في العالم. وكان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي انان قد دعا شركات الأعمال الكبرى في العالم إلى الأخذ بتسعة مبادئ عالمية لأداء الأعمال التجارية في مجالات حقوق الإنسان ومعايير العمل والممارسات البيئية. وفي تموز/ يوليو 2000 افضى ذلك إلى إطلاق مبادرة الإنفاق العالمي، التي تقضي بتعهد شركات الأعمال بجعل هذه المبادئ العالمية جزءًا لا يتجزأ من انشطتها.
هناك عدة تعريفات لمفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات(2)، وكلها تدور حول المعنى ذاته، وهي تحمّل الشركات لمسؤوليتها تجاه أصحاب المصالح من حملة الأسهم والمستهلكين والعملاء والموردين والعاملين والبيئة والمجتمع(۳) ويقصد بهذا المفهوم التزام الشركات ليس فقط بتحقيق أرباح لمساهميها، ولا تقتصر المسؤولية تجاه الاقتصاد القومي فقط، ولكن تمتد لتشمل البيئة والعاملين وأسرهم وفئات أخرى من المجتمع. ومن أهم التعريفات وأكثرها شيوعًا تعريف البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومجلس الأعمال الدولي للتنمية المستدامة. فقد عرّف البنك الدولي المسؤولية الاجتماعية على أنها التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة ويخدم التنمية في آن واحد(4). كما عرّفت الغرفة التجارية العالمية المسؤولية الاجتماعية على أنها جميع المحاولات التي تساهم في أن تتطوع الشركات لتحقيق تنمية بسبب اعتبارات أخلاقية واجتماعية. وبالتالي فإن المسؤولية الاجتماعية تعتمد على المبادرات الحسنة من الشركات دون وجود إجراءات ملزمة قانونيًا. ولذلك فإن المسؤولية الاجتماعية تتحقق من خلال الإقناع والتعليم. كما عرفها مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة بأنها الالتزام المستمر من قبل مؤسسات الأعمال بالتصرف أخلاقيًا والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، إضافة إلى المجتمع المحلي والمجتمع ككل(5). ويعرف الاتحاد الأوروبي المسؤولية الاجتماعية على أنها مفهوم تقوم الشركات بمقتضاه بتضمين اعتبارات اجتماعية وبيئية في أعمالها وفي تفاعلها مع اصحاب المصالح على نحو تطوعي. ويركز الإتحاد الأوروبي على فكرة أن المسؤولية الاجتماعية مفهوم تطوعي لا يستلزم سنّ القوانين أو وضع قواعد محددة تلتزم بها الشركات للقيام بمسؤولياتها تجاه المجتمع.
تعدّ المسؤولية الاجتماعية إذًا، مفهومًا تطوعيًا يعكس التزامًا اخلاقيًا غير مكتوب، وتغلب عليه مفاهيم التأثير الإيجابي على المفهوم الربحي للشركات، فتظهر عمق التفاعل الإنساني بين مختلف الأطراف.
الدور المجتمعي للشركات يجسّد تنامي الوعي بأهمية مسؤولياتها الاجتماعية تجاه التعامل بمسؤولية ووطنية في أوقات الأزمات، كما يسلّط الضوء على دور مجتمع الأعمال في رفع سقف معايير الإسهامات في خدمة المجتمع بشكل عام، ومن خلال إطلاقها مبادرات جديدة وخلاقة تسهم في تعظيم الأثر المجتمعي الإيجابي لها.
في زمن فيروس كورونا، أصيب القطاع الخاص في الدول المتقدمة بخسائر كبيرة حتّمت دخول الحكومات في برامج شراء سندات من جهة ومشاريع تحفيز من جهة أخرى للحفاظ على إستمرارية ودوام عمل الشركات التي استمرت في توفير مقوّمات العيش والاستمرار لموظفيها، والانتقال معهم إلى مرحلة العمل عن بعد… هذا الواقع لم يحجب إقدام مؤسسات خيرية عملاقة مرتبطة برجال مال وأعمال وشركات كبيرة في توفير منح ومساعدات مادية مباشرة لمراكز أبحاث ومختبرات للإسراع في توفير لقاحات وعلاجات لهذا الوباء العالمي.
في العالم العربي، تؤشر التجارب القائمة أو التاريخية بوضوح على الدور الاجتماعي للقطاع الخاص، فالحضارة العربية يغلب عليها تاريخياً طابع المجتمعات أكثر من الدول، والتضامن والتكافل، والتقدم الحضاري والعالمي الذي أنجز كان يعتمد على المجتمعات والأفراد أكثر من الدول.
فالحضارة العربية والإسلامية كانت قائمة تاريخياً على مؤسستين متكاملتين ومستقلتين، وهما الدولة (السلطة) والمجتمعات التي كانت تنظم التعليم والرعاية والتكافل، في حين كانت السلطة تنسّق شؤون الأمن والدفاع وترعى المجتمعات وتساعدها. وعلى رغم الدور الواسع للحكومات في دول الخليج في الرفاه والتنمية والرعاية الاجتماعية، فقد استمرت فيها المساهمات التنموية والاجتماعية للأفراد والشركات، كما التعاضد الاجتماعي في أزمنة الشدة.
الصعوبات المادية واللوجستية لم تحل إذاً دون إستمرار الشركات العربية في القيام بدورها في زمن كوفيد-١٩، من دون أن نغفل الاجراءات القاسية التي اضطرت لاتخاذها ضماناً لاستمرارها.
المسؤولية المجتمعية للشركات ليست صدقة ولا منة، بل هي واجب على الشركات تجاه المجتمع الذي احتضنها ووفّر لها جميع الإمكانات لتكون على ما أصبحت عليه، ويتم ذلك من خلال دعم الجمعيات الخيرية أو تبني إقامة مشاريع لبناء قدرات المجتمع، وهو الخط الذي إنتهجناه في مؤسساتنا ومشاريعنا وأعمالنا كافة.
المراجع
1 – مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، كشف البيانات المتعلقة بتأثير الشركات على المجتمع الإتجاهات والقضايا الراهنة، الأمم المتحدة، نيويورك وجنيف، 2004، ص 5
2 – مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، كشف البيانات المتعلقة بتأثير الشركات على المجتمع الإتجاهات والقضايا الراهنة، الأمم المتحدة، نيويورك وجنيف، 2004، ص 27 – 29
3 – UNIDO and the World Summit on Sustainable Development, Corporate Social Responsibility: Implications for Small and Medium Enterprises in Developing Countries, Vienna, 2002, p5
4 – World Bank, Opportunities and options for governments to promote corporate social responsibility in Europe and Central Asia: Evidence from Bulgaria, Croatia and Romania. Working Paper, March 2005, p1
5 – World Business Council for sustainable Development (WBCSD). Meeting changing expectations: Corporate social responsibility, 1999, p3