كتب د. عدنان منصور، وزير الخارجية والمغتربين الأسبق
غريب وعجيب أمر المنظومة السياسية القابضة بكلّ قوة على رقبة لبنان، ودولته، ومؤسساته، وشعبه!
منظومة كانت السبب المباشر للمصائب، والأزمات والمآسي المؤلمة التي أصابت اللبنانيين في الصميم نتيجة ممارساتها المدمّرة خلال العقود الماضية لا سيما في السنوات الأخيرة، والتي صدّعت وقوّضت أركان البيت اللبناني، وجعلته في كل وقت آيلاً الى السقوط على مرأى من العالم كله، وأيضاً على مرأى عيون الذين تولوا مقاليد الحكم والمناصب، وانتهكوا الدستور والقوانين، والقضاء، وعبثوا بمقومات الدولة، والوطن، وحقوق المواطن اللبناني، المسؤولون في المنظومة الحاكمة،
تركوا البلد يلفظ أنفاسه ببطء، دون رادع او منقذ، ودون أن يرفّ لهم جفن، أو يوخزهم إحساس أو ضمير.
ولاية عهد ما كنا نتمنى ان ينتهي بالشكل الذي هو فيه، وصورة لبنان مشوّهة، ملطخة في الداخل والخارج، إذ لم يشهد اللبنانيون خلال السنوات الستّ، أسوأ مما واجهوه، ومرّوا به طيلة حياتهم، وتعرّضوا له، من فقر، وإذلال، وإحباط، وقهر، ويأس، ونهب على يد مافيا مالية وقحة مجرمة، مارست على الأرض أقذر أنواع السياسات وأبشعها، مستغلة مراكزها، وسلطاتها، وقبضتها على الحكم، لتعبث بمقدرات الوطن، وتسرق جنى عمر الناس، وتعمّم الفساد على الملأ، وتنشره على مساحة الوطن كله،
الكل مسؤول حيال ما حلّ بهذا البلد المنكوب بقراصنة زمرة سياسية حاكمة، وإنْ تعدّدت الأسباب، وتفاوتت نسب المسؤولية، فعند المشاركة بالحكم، لن يعود هناك من يدّعي بمفرده النزاهة اذا وجدت داخل الحكم، او يحيّد نفسه عن الفساد إذا ما نخر في جسم الدولة ومؤسساتها…
وطن يترنّح، يبحث عن حكومة إنقاذ، وأيّ حكومة! يبحث عن رئيس جديد لجمهورية فاشلة، منهوكة، متآكلة، متصدّعة، يتسارع انهيارها، وتنحدر يوماً بعد يوم، والمتكالبون على الحكم والسلطة، لا يهمّهم إنقاذ بلد، أو بناء دولة عصرية، أو يكترثون لمستقبل شعب، فالجميع يتزاحمون على اقتسام وتوزيع الحصص والصفقات والحفاظ على الامتيازات، وكلّ ذلك تحت ستار التمسك بحقوق الطوائف وخطوطها الحمر، وأحزابها،
ومناطقها، ومصالحها الفردية، في بلد مثل لبنان، لن تستقيم الأمور فيه، ولن تقوم له قائمة، لا اليوم ولا غداً، بغناه أو بفقره،
بثروة نفطية وغازية او دونها، طالما أنّ هذه المنظومة تجثم على صدره، وتحبس أنفاسه، وتعالج قضاياه الوطنية المصيرية، ومشاكله الإقتصادية، والاجتماعية، والحياتية، والخدمية، بالمسكنات، وتوزع الأدوار، وتقوم بتسوية الخلافات «بتبويس اللحى»، وترقيع ثوب الوطن المهترئ ترقيعاً يغطي عيوبها ولو لوقت قصير…
منظومة تحرص على التوافق، وتسوية الخلافات بين الفئآت المتعارضة، والمتناقضة، وإنْ جاءت التسوية على حساب مطالب الشعب الحيوية في بناء الدولة العادلة القادرة المقتدرة، فأيّ لبنان هو هذا الذي يبدي مقاولو المنظومة السياسية باستمرار، حرصهم عليه، وعلى حياة شعبه، وهم الذين لم يستطيعوا حتى اللحظة وقبل أيام من نهاية العهد، تشكيل حكومة عملاً بأحكام الدستور، غير مبالين بما ينتظره البلد من تطورات، وأزمات، وحراك، وفوضى، فيما هم بعنادهم، وتمسكهم بمصالحهم الشخصية، يضيّعون ويهدرون الوقت في تأليف الحكومة، وهم يبحثون عن الأسماء وتوزيع الحقائب، وفرز الوزارات، بين «سيادية»، وخدمية، وعادية و»هامشية»!
منظومة سياسية بالية معوقة، ابتُلي بها اللبنانيون، كلّ اللبنانيين، لا تزال تجسّد ماضيها وحاضرها بكلّ عيوبها وانحطاطها الأخلاقي السياسي، لا يهمّها انهيار بلد، وجوع شعب، ويأس جيل بأكمله، بقدر ما يهمّها استمرارية حكمها، وتسلطها، واستغلالها، وديمومة امتيازاتها، واحتكاراتها، وتوحشها المالي الذي فاق كلّ حدود!
أركان المنظومة ليسوا على عجل لتشكيل حكومة، او انتخاب رئيس للجمهورية، إذ أنّ القرار، وحرية الاختيار عند البعض مصادَر من دول وسفارات، وهناك من يدور في خلده غايات وأهداف، وحسابات شخصية مغايرة لغايات وأهداف وحسابات الآخرين، حتى وإنْ تعارضت مع مصالح الوطن العليا، ووحدة شعبه، هناك أيضاً من يعمل بالخفاء وبصمت، ليدفع باتجاه استفحال الأمور وتعقيدها، بغية إجهاض أيّ حلّ لا يعكس ما يخطط له، ولا يلبّي ما يريده على المدى القصير والمتوسط، من أهداف مبيّتة، إذ هو يبحث عن حلّ خارج المعادلة والصيغة السائدة حالياً، التي يرى فيها أنها تتعارض مع تطلعاته، وأهدافه في إقامة دولة فيدرالية، مغلفة ومظرفة بشعار اللامركزية الموسعة الإدارية والمالية، وهذا ما يؤدّي الى تعميق الهوّة، وزيادة حدّة الأزمة داخل منظومة الحكم، ويعطل بالتالي ايّ حلّ لها، وهذا ما يريده…
إنّ من يدفع الثمن غالياً نتيجة التجاذبات والمواقف الكيدية داخل المنظومة الحاكمة، هو المواطن اللبناني أولاً وأخيراً، إنه يتحمّل مسؤولية قراره الذي أتى بها الى السلطة والحكم، عبر صناديق الاقتراع، وسار وراءها بعصبية مقيتة، وببصيرة عمياء، يهتف ويهلل لها، فيما هو يعرف جيداً، ويعلم علم اليقين تاريخها، وماضيها، وحاضرها، وسلوكها، وحجم الفساد في داخلها،
إنها منظومة السلطة والحكم، التي تبحث اليوم عن رئيس جديد للبنان بمواصفات تريدها فيه، وتنسجم مع مواصفاتها، ونهجها، وسلوكها! فما هي المواصفات التي تريدها أن تتوفر في الرئيس العتيد؟! هل تريد منظومة السلطة، ومعها أخطبوط المصارف، وشبكات رأس المال، والاحتكارات، والكارتيلات فعلاً، رئيساً قوياً، نزيهاً، جريئاً،حازماً، بانياً، نهضوياً، قادراً على انتشال البلد من مستنقع الفساد الذي وضعته فيه منظومة السلطة الحاكمة، وإنقاذه من جبّ اللصوص، بعد أن دمّرته، وأتت على الأخضر واليابس؟
هل تريد المنظومة الحاكمة، رئيساً صُنع في لبنان أم رئيساً يحظى بموافقة مسبقة، وبمباركة دول خارجية «حريصة» على مصالح لبنان وسيادته واستقراره و»غيورة» على مستقبل وراحة شعبه!
لأفرقاء المنظومة السياسية الذين يحملهم الشعب المسؤولية الكاملة، عما وصلت إليه البلاد، وأحوال العباد نقول: إنّ الاستمرار في سلوككم السياسي، وعنادكم، وفشلكم في إنجاز
الاستحقاق الحكومي والرئآسي، ولا مبالاتكم إزاء ما تحمله الأيام المقبلة من نذر خطيرة، سيدفع بالبلاد إلى الفوضى العارمة والى المزيد منتفكك المؤسسات، وتشريع الأبواب أمام رياح ساخنة داخلية لا يحتمّلها لبنان، فليتدارك أقطاب المنظومة السياسية خطورة المرحلة المقبلة قبل فوات الأوان، والتي تضعهم على المحك، وهي تهدّد في الصميم الصيغة والميثاقية، ووحدة الوطن اللبناني ونسيج شعبه، وأمنه واستقراره، حتى لا يأتي الأول من تشرين الثاني ولبنان بلا حكومة، وبلا رئيس للجمهورية، حتى لا يغرق في الفراغ، والفوضى ويقع في المحظور، أسرعوا الى تشكيل حكومة بمعايير وطنية حقيقية، بعيداً عن حساباتكم، ومصالحكم الشخصية، ومصالح المغامرين، والمقامرين بلبنان وشعبه، وقبل أن ينهار الهيكل المتصدع على رؤوس الجميع!
ما كانت المنظومة لتستطيع أن تعبث بمصالح الوطن والشعب، لولا انّ المواطنين ارتضوا، وأتوا بها بملء إرادتهم الى السلطة بعد منحها أصواتهم لها أثناء الاستحقاق النيابي، وما عليهم اليوم، إلا أن يتحمّلوا مكرَهين مسؤولية اختيارهم لها، وأيضاً نتائج القرارات الظالمة التي ارتكبتها بحقهم مافيا المال في المنظومة الحاكمة، فليسترح أفراد المنظومة السياسية، وليهنأوا بما هم فيه، لطالما حظوا «بثقة» المواطن وصمته وخنوعه!
عندما يرضخ المواطن طوعاً لسوط الجلاد، فلا داعي بعد ذلك، إلقاء اللوم على الجلاد، إذا ما استخدم السوط، وجلد من جعل السوط لنفسه سبيلاً…